فصل: تفسير الآيات (40- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (39):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [39].
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِه} إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي، إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل، أي: سارعوا إلى التكذيب به، وفاجؤوه في بديهة السماع، قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه، ويقفوا على تأويله ومعانيه وما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه ليس مما يمكن أن يقدر عليه مخلوق، وذلك لفرط نفورهم عما يخلف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية، إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة، وبيان الاستقامة، أنكرها في أول وهلة، واشمأز منها، قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد؛ لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه، وفساد ما عداه من المذاهب. وسر التعبير: {بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِه} الإيذان بكمال جهلهم به، وأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم علمهم به كذا في الكشاف وأبي السعود.
{وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي: بيان ما يؤول إليه، مما توعدهم فيه. وهذا المعنى هو الصحيح في الآية. وقد مشى عليه غير واحد.
قال في تنوير الاقتباس: أي: عاقبة ما وعدهم في القرآن.
وقال الجلال: أي: عاقبة ما فيه من الوعيد.
وقال القاشاني: تأويله: أي: ظهور ما أشار إليه في مواعيده، وأمثاله مما يؤول أمره وعلمه إليه، فلا يمكنهم التكذيب؛ لأنه إذا ظهرت حقائقه لا يمكن لأحد تكذيبه.
{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: بآيات الرسل، قبل التدبر في معانيها.
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي: من هلاكهم بسبب تكذيبهم.

.تفسير الآيات (40- 42):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [40- 42].
{وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِه} أي: يصدق به في نفسه، ولكن يكابر بالتكذيب: {وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}
{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي: إن أصروا على تكذيبك، فتبرأ منهم، فقد أعذرت.
ثم أشار إلى أنهم ممن طبع على قلوبهم بقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أي: إذا قرأت القرآن: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أبرزهم في عدم انتفاعهم بسماعهم، لكونهم لا يعون ولا يقبلون، بصورة الصم المعتوهين، أي: أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم، ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم؟ لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دويِّ الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل فقد تم الأمر.

.تفسير الآية رقم (43):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} [43].
{وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} كذلك أبرزهم لدعم انتفاعهم بمشاهدة أدلة الصدق وأعلام النبوة، بصورة العمي المضموم إلى عماهم فقد البصيرة. أي: أتحب هداية من كان كذلك؟ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، أما مع الحمق فجهد البلاء. يعني أنهم في اليأس من أين يقبلوا ويصدقوا، كالصم والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول- كذا في الكشاف-.

.تفسير الآية رقم (44):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [44].
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} بتعذيبهم من غير أن تقوم الحجة عليهم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ومن غير أن يكونوا سليمي الحواس والمدارك، فإنه لعدله لا يفعل ذلك {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والتكذيب وعدم استعمال حاساتهم ومداركهم فيما خلقت له.

.تفسير الآية رقم (45):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [45].
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} أي: شيئاً قليلاً: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي: يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتعارفوا إلا قليلاً: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} أي: بالبعث بعد الموت: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أي: من الكفر والضلالة.

.تفسير الآيات (46- 47):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [46- 47].
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُم} أي: من العذاب: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّك} أي: قبل ذلك: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي: فننجزهم ما وعدناهم كيفما دار الحال: {ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} أي: من مساوئ الأفعال.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} أي: منهم، أرسل لهدايتهم، وتزكيتهم بما يصلحهم: {فَإِذَا جَاء رَسُولُهُم} أي: فبلغهم ما أرسل به فكذبوه: {قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْط} أي: بالعدل فأنجي الرسول وأتباعه، وعذب مكذبوه: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: في ذلك القضاء المستوجب لتعذيبهم؛ لأنه من نتائج أعمالهم.
وقال القاشاني في قوله تعالى: {قُضِيَ بَيْنَهُم} أي: بهداية من اهتدى منهم، وضلالة من ضل وسعادة من سعد، وشقاوة من شقي، لظهور ذلك بوجوده، وطاعة بعضهم إياه لقربه منه، وإنكار بعضهم له لبعده عنه. أو قضى بينهم بإنجاء من اهتدى به وإثابته، وإهلاك من ضل وتعذيبه، لظهور أسباب ذلك بوجوده- انتهى-.
فالآية على هذا كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وجوز أن يكون المعنى: لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه، وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، قضى بينهم بإنجاء المؤمنين، وعقاب الكافرين. كقوله تعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: 69].
وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (48- 49):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [48- 49].
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} استبعاداً له، واستهزاءً به: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: في أنه يأتينا، ولما فيه من الإشعار بكون إتيانه بواسطة النبي صلوات الله عليه، قيل:
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} أي: مع ذلك أقرب حصولاً، فكيف أملك لكم حتى أستعجل في جلب العذاب لكم وتقديم الضر، لما أن مساق النظم لإظهار العجز عنه، وأما ذكر النفع فلتوسيع الدائرة تعميماً. والمعنى لا أملك شيئاً ما.
{إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} أي: أن أملكه، أو لكن ما شاء الله كائن، فالاستثناء متصل أو منقطع. وصوب أبو السعود الثاني، بأن الأول يأباه مقام التبرؤ من أن يكون، عليه الصلاة والسلام، له دخل في إتيان الوعد. وبسط تقريره.
وأفاد بعض المحققين أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن الكريم للدلالة على الثبوت والاستمرار، كما في هذه الآية، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]، قال: والنكتة في الاستثناء، بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى، لا بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل. وهو نفيس جدًّا فليحرص على حفظه.
وقوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي: لكل واحد من آحاد كل أمة أجل معين: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} قال القاشاني: درَّجهم إلى شهود الأفعال بسلب الملك والتأثير عن نفسه، ووجوب وقوع ذلك بمشيئة الله، ليعرفوا آثار القيامة. ثم لوح إلى أن القيامة الصغرى هي بانقضاء آجالهم المقدرة عند الله بقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} الآية.

.تفسير الآية رقم (50):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [50].
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ} أي: أخبروني: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} أي: الذي تستعجلون به: {بَيَاتاً} أي: ليلاً: {أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُون} أي: ولا شيء منه بمرغوب البتة.
لطائف:
الأولى- {أرأيت} يستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية، وهو أصل وضعه، ثم استعملوه بمعنى أخبرني والرؤية فيه يجوز أن تكون بصرية وعلمية، فالتقدير: أأبصرت حالته العجيبة، أو أعرفتها؟ فأخبرني عنها. ولذا لم يستعمل في غير الأمر العجيب. ولما كانت رؤية الشيء سبباً لمعرفته، ومعرفته سبباً للإخبار عنه، أطلق السبب القريب أو البعيد، وأريد مسببه، وهل هو بطريق التجوز كما ذهب إليه كثير، أو التضمين كما ذهب إليه أبو حيان- كذا في العناية.
الثانية- سر إِيثار {بياتاً} على ليلاً مع ظهور التقابل فيه، الإشعار بالنوم والغفلة، وكونه الوقت الذي يبيت فيه العدو، ويتوقع فيه، ويغتنم فرصة غفلته، وليس في مفهوم الليل هذا المعنى، ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش، حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار، أو النهار كله محل الغفلة، لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو غذاء، أو زمان قيلولة، كما في قوله: {بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: من الآية 4] بخلاف الليل، فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات، لذا خص بالذكر دون النهار. والبيات بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم، ولا بمعنى البيتوتة.
الثالثة- قيل: إن استعجالهم العذاب، كان المقصود منه الاستبعاد والاستهزاء، دون ظاهره، فورود ما هنا في الجواب على الأسلوب الحكيم؛ لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا الاستبعاد أن الموعود منه تعالى، وأنه افتراء، فطلبوا منه تعيين وقته تهكماً وسخرية، فقال في جوابهم: هذا التهكم لا يتم إذا كنت مقراً بأني مثلكم، وأني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، فكيف أدعي ما ليس لي به حق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح، ولم يلتفت إلى تهكمهم واستبعادهم- أفاده الطيبي-.
الرابعة- سر إيثار: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُون} على مَاذَا يَسْتَعْجِلونُ مِنْهُ هو الدلالة على موجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعاً من مجيئه، وإن أبطأ، فضلاً عن أن يستعجله- كذا في الكشاف-.
قال في الانتصاف: وفي هذا النوع البليغ نكتتان:
إحداهما: وضع الظاهر مكان المضمر، والأخرى: ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر.
وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة- والله أعلم-.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (51):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [51].
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ} إنكار لإيمانهم بنزول العذاب بعد وقوعه حقيقة، داخل مع ما قبله من إنكار استعجالهم به بعد إتيانه حكماً، تحت القول المأمور به. أي: أبعد ما وقع العذاب وحلَّ بكم حقيقة آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان؟ إنكاراً لتأخيره إلى هذا الحد، وإيذاناً باستتباعه للندم والحسرة، ليقلعوا عما هم عليه من العناد، ويتوجهوا نحو التدارك قبل فوت الفوات- أفاده أبو السعود-.
وقوله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} على إرادة القول. أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد معاينة العذاب: {آلآن آمنتم به}؟ وذلك إنكاراً للتأخير، وتوبيخاً عليه. وسر وضع: {تَسْتَعْجِلُونَ} موضع: {تكذبون} الذي يقتضيه الظاهر، الإشارة إلى أن المراد به الاستعجال السابق، وهو التكذيب والاستهزاء، استحضاراً لمقالتهم، فهو أبلغ من تكذبون.
وقيل: الاستعجال كناية عن التكذيب، وفائدة هذه الحال استحضارها، وهذا ما ذكروه، ولا مانع من بقاء الاستعجال على حقيقته، يدل عليه آية: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال: 32] الخ، فهم مع تهكمهم رضوا بأن يعاينوا آية يعذبون بها، لما في قلوبهم من مرض العناد العضال، والجهل المصم المعمي، ولذلك أجيبوا بأن العذاب هل فيه ما يستعجل منه! أي: فمثل هذا الاستعجال لا يصدر ممن له مسكة من عقل؛ إذ لا يستعجل إلا ما يرجى خيره، ثم أعلمهم بعدم فائدة إيمانهم وقتئذ، وما يوبخون به إنكاراً للتأخير- والله أعلم-.

.تفسير الآيات (52- 53):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [52- 53].
{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: أشركوا: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ} في الآخرة: {إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي: تقولون وتعملون في الدنيا.
{وَيَسْتَنبِئُونَكَ} أي: يستخبرونك: {أَحَقٌّ هُوَ} أي: الوعد بعذاب الخلد، أو ادعاء النبوة أو القرآن: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين العذاب، فهو لاحق بكم لا محال، من أعجزه الشيء إذا فاته، يصح كونه أعجزه بمعنى وجده عاجزاً. أي: ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزاً عن إدراككم، وإيقاعه بكم.
لطائف:
الأولى- دل سؤالهم هذا على محض جهلهم أو عنادهم، لما ثبت من البرهان القاطع على نبوته بمعجز القرآن، وإذا صحت النبوة لزم القطع بصحة كل ما ينبئهم عنه، مما يصدعهم به.
الثانية- إنما أمر بالقسم لاستمالتهم، وللجري على ما هو المألوف في المحاورة، من تحقيق المدعي، فإن من أقسم على خير، فقد كساه حلة الجدّ، وخلع عنه لباس الهزل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13- 14].
الثالثة- لما كانت الناس طبقات، كان منهم من لا يسلم إلا ببرهان حقيقي، ومنهم من لا ينتفع به، ويسلم إلا بالأمور الإقناعية، نحو القسم، كالأعرابي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن رسالته وبعثه، وأنشده بالذي بعثه، ثم اقتنع بقوله صلوات الله عليه: «اللهم نعم» فقال: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة،- رواه البخاري في أوائل كتاب العلم-.
الرابعة- قال ابن كثير: هذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وفي التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]- انتهى-.
وقد استمد ابن كثير هذا مما ذكره شيخه الإمام ابن القيم في زاد المعاد قال: وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعاً، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع، ثم ذكر هذه الآيات، ثم قال: وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه- فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف، وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جدًّا، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم. انتهى.